14- الحصان الأصيل

الْحِصَـانُ الأَصِيلُ

 هِنْدُ عِنْدَهَا حِصَانٌ ، وَحِصَانُهَا جَمِيلٌ ، وَجِسْمُهُ كَبِيرٌ ، وَذَيْلُهُ طَوِيلٌ . وَهِنْدُ تَرْكَبُ حِصَانَهَا كُلَّ يَوْمٍ ، وَتَسِيرُ بِهِ فِى طَرِيقِ الْمَزَارِعِ ؛ لِلنُّزْهَةِ . وَهِىَ تُحِبُّ حِصَانَهَا ، وَتَقَدِّمُ لَهُ الْبِرْسِيمَ كَثِيرًا ، وَالشَّعِيرَ أَحْيَانًا .. وَيُحِبُّ هِنْدَ ، وَيُطِيعُهَا ، وَيَسِيرُ بِهَا كَمَا تُرِيدُ .

 وَفِى يَوْمٍ مِنَ الأيَّامِ ، وَبَيْنَ الْعَصْرِ ، وَالْمَغْرِبِ ، رَكِبَتْ هِنْدُ حِصَانَهَا ، وَخَرَجَتْ بِهِ مِنَ الْحَظِيرَةِ ، وَسَارَ بِهَا حِصَانُهَا فِى طَرِيقِ الْمَزَارِعِ ، وَكَانَ الْهَوَاءُ جَمِيلاً ؛ فَأَحَسَّتْ بِهِ هِنْدُ ، وَأَنْعَشَهَا .. وَأَحَسَّ بِه حِصَانُهَا ؛ فَأَنْعَشَهُ ، وَأَنْشَطَهُ ، وَأَخَذَ يَتَرَقَّصُ ، وَكَانَتْ هِنْدُ فَرِحَةً بِحِصَانِهَا . وَفَكَّرَتْ هِنْدُ أَنْ تَذْهَبَ إِلَى إِحَدى الْمَزَارِع الْبَعِيدَةِ ، وَقَرُبَتِ الشَّمْسُ  أَنْ تَغِيبَ ، وَاسْتَبْعَدَتْ هِنْدُ الْمَزْرَعَةَ ، وَتَسَاءَلَتْ : مَتَى أَصِلُ إِلَى الْمَزْرَعَةِ ؟! وَمَتَى أَعُودُ مِنْهَا إِلَى الْبَيْتِ ؟!

 فَكَّرَتْ هِنْدُ ، وَابْتَسَمَتْ ، وَسَأَلَـتْ نَفْسَهَا : لِمَاذَا لاَ أُجَرِّبُ أَنْ يَجْرِىَ بِى حِصَانِى ؟ فَنَادَتْ حِصَانَهَا : هَيَّا اجْرِ ؛ فَتَعَجَّبَ الْحِصَانُ مِنْ أَمْرِهَا ، وَصَوَّبَ أُذُنَيْهِ نَحْوَهَا .. فَهُوَ قَدِ اعْتَادَ أَنْ تَأْمُرَهُ بِالْمَشْىِ ؛ فَيُطِيعَهَا ، وَيَمْشِىَ .. وَاعْتَادَ أَنْ تَأْمُرَهُ بِالوُقُوفِ ؛ فيُطِيعَهَا ، وَيَقِفَ .. وَاعْتَادَ أَنْ تَأْمُرَهُ بِالرَّقْصِ ؛ فيُطِيعَهَا ، وَيَرْقُصَ ؛ وَلذَلِكَ فَقَدْ تَمَهَّلَ قَلِيلاً فِى طَاعَتِهَا ؛ لِتَتَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةُ أَمْرِهَا .

 

 بَعْدَ قَلِيلٍ ، أَعَادَتَ هِنْدُ أَمْرَهَا الَّذِى أَمَرَتْهُ بِهِ ؛ فَصَاحَتْ بِهِ : هَيَّا اجْرِ .. أَلاَ تَسْمَعُنِى يِا حِصَانِى ؟

فوَهَزَّتْ هِنْدُ رِجْلَيْهَا ، وَشَدَّتِ اللِّجَامَ بِقُوَّةٍ ، وَأَرْخَتْهُ فَجْأَةً ؛ فَتَأَكَّدَ لَهُ أَنَّهَا جَادَّةٌ ؛ فتَعَجَّبَ مِنْهَا ، وَهِىَ صَغِيرَةٌ ، وَكَانَ يَخْشَى عَلَيْهَا أَنْ تَقَعَ مِنْ فَوْقِهِ ؛ فَيُعَاقَبَ مِنْ أَجْلِهَا ، وَهُوَ قَبْلَ هَذَا يُحِبُّهَا . وَطَالَمَا أَمَرَتْهُ بِالْجَرْىِ ، وَأَلَحَّتْ عَلَى أَمْرِهَا ؛ فَالأَمْرُ أَمْرُهَا ، وَلِيَجْرِ عَلَى مَسْئُوَلِيَّتِهَا . فَنَظَرَ إِلَى أَمَامِهِ ، وَانْطَلَقَ يَجْرِى مُسْرِعاً .. وَلَكِنَّهُ كَانَ يَدْعُو اللَّهَ – فِى سِرِّهِ – أَنْ يُثَبِّتَهَا فَوْقَ ظَهْرِهِ .

 فَرِحَتْ هِنْدُ بِجَرْىِ حِصَانِهَا ، وَفَرِحَتْ بِالْهَوَاءِ الْجَمِيلِ الَّذِى كَانَ يُلاَعِبُهَا ؛ فَكَانَ يَلْفَحُ وَجْهَهَا ، وَفَرِحَتْ كَثِيراً بِحِصَانِهَا ، وَقَدِ اقْتَرَبَ بِهَا مِنَ الْمَزْرَعَةِ الْبَعِيدَةِ بَعْدَ وَقْتٍ قَلِيلٍ .. وَقَدْ أَعْجَبَهَا كُلُّ ذَلِكَ ، وَلَمْ تَكْتَفِ بِهِ ؛ فَهَزَّتْ رِجْلَيْهَا ، وَصَاحَتْ بِحِصَانِهَا : هَيَّا ، اجْرِ بِسُرْعَةٍ ، وَأَرْخَتْ لَهُ اللِّجَامَ ؛ فَانْطَلَقَ يَجْرِى ، وَكَأَنَّهُ يَطِيرُ كَالطَّائِرَةِ .. فَطَارَتْ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا طَرْحَتُهَا ، وَكَانَتْ هِنْدُ قَدْ سَرَّحَتْ شَعْرَهَا ، وَصَفَّفَتْهُ ؛ فَانْحَلَّ نِظَامُهُ ، فَجَعَلَ يُرَفْرِفُ .

 فَاجَأَتِ الْحِصَانَ حُفْرَةٌ كَبِيرَةٌ ، وَكَانَتْ وَسَطَ الطَّرِيقِ ؛ فَلَمْ  يَتَمَالَكْ أَنْ يَقِفَ قَبْلَهَا ، وَلَمْ  يَسْتَطِعْ  أَنْ يَنْحِرِفَ يَمْنَةً ، أَوَ يَسْرَةً عَنْهَا ؛ لاتِّسَاعِهَا ، وَلَمْ يَجِدْ بُدَّاً مِنَ الْقَفْزِ فَوْقَهَا ؛ فَقَفَزَ ، وَعَبَرَهَا . وَكَانَتْ هِنْدُ قَدْ أَرْخَتْ لَهُ اللِّجَامَ ، فَقَفَزَ قَفْزَةً عَالِيَةً ، وَلَمْ تَكُنْ  هِنْدُ تُمْسِكُ بِشَىْءٍ  .. وَلَمْ  تَكُنْ تَتَوَقَّعُ أَنْ يَقْفِزَ حِصَانُهَا مِثْلَ هَذِهِ الْقَفْزَةِ الْعَالِيَةِ ؛ فَوَقَعَتْ فَجْأَةً مِنْ فَوْقِ ظَهْرِهِ .

أَخَذَ الْحِصَانُ يُقَلِّلُ مِنْ سُرْعَتِهِ ، حَتَّى تَوَقَّفَ عَنِ الْجَرْىِ ، وَعَادَ  إِلَى هِنْدَ .. وَحِينَما وَصَلَ إِلَيْهَا وَجَدَهَا مُسْتَلْقِيةً عَلَى ظَهْرِهَا ؛ فتَأَلَّمَ لأَلَمِهَا ، وَأَسِفَ لِمَا أَصَابَهَا ، وَمَدَّ عُنُقَهُ نَحْوَهَا ، وَبِفَمِهِ لَمَسَهَا

وَقَالَ مُعْتَذِرًا : وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ إِلاَّ مَا أَمَرْتِنِى بِهِ : سِرْ ؛ فَسِرْتُ .. اجْرِ ؛ فَجَرَيْتُ .. أَسْرِعْ ؛ فَأَسْرَعْتُ  فَحَدَثَ مَا حَدَثَ ، وَأَنَا آسِفٌ ، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ حَالِهَا : لاَ بَأْسَ عَلَيْكِ ، وَهَلْ أَنْتِ بِخَيْرٍ ؟ وَكَانَتْ هِنْدُ قَدْ أَسْعَدَهَا رُجُوعُهُ إِلَيْهَا ، وَاعْتِذَارُهُ ، وَأَسْعَدَهَا كَثِيراً سُؤَالُهُ عَنْهَا ؛ فَخَفَّفَ هَذَا الأَلَمَ عَنْهَا ، وَجَلَسَتْ ، وَمَدَّتْ يَدَهَا ، وَمَسَحَتْ بِرَأْسِهِ ، وَقَالَتْ : نَعَمْ ، أَنَا بِخَيْرٍ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَشُكُرًا لَكَ .

 ابْتَسَمَ  الْحِصَانُ ، وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِجَوَابِهَا ،  وَمُتَعَجِّباً سَأَلَهَا : عَفْوًا ، أَنَا فَعَلْتُ  مَا يَجِبُ عَلَىَّ ، فَلِمَاذَا تَشْكُرِينَنِى ؟! فَأَجَابَتْ : لأَنَّكَ أَفْضَلُ مِنْ قَرِيبِكِ الْحِمَارِ ؛ فَضَحِكَ الْحِصَانُ ، وَهُوَ يَعْرِفُ قَرِيبَهُ الْحِمَارَ ، فَسَأَلَهَا : مَا الَّذِى فَعَلَهُ بِكِ قَرِيبِى ؟ فَأَجَابَتْ : ذَاتَ مَرَّةٍ  أَمَرتُهُ أَنْ يَجْرِىَ بِى ؛ فَتَلَكَّأَ عَلَىَّ كَثِيراً ؛ فَنَهَرَتْهُ ، وَزَجَرَتْهُ ؛ فَجَرَى . وَأَمَرَتْهُ أَنْ يُسْرِعَ فِى جَرْيِهِ ؛ فَأَبِى ، وَجَعَلَ يَقْفِزُ ، وَيَرْفِسُ الْهَوَاءَ . وَأَمَرَتْهُ أَنْ يَكُفَّ عَنِ الْقَفْزِ ، وَعَنِ الرَّفْسِ ؛ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِى .. فَوَقَعْتُ مِنْ فَوْقِهِ عَلَى الأَرْضِ . وَلَيْتَهُ اكْتَفَى بِهَذَا ، بَلْ رَفَسَنِى ، وتَرَكَنِى َعَلَى الأَرْضِ مُسْتَلْقِيَةٌ.. وَانْطَلَقَ يَجْرِى  ، وَهُوَ يَنْهِقُ .

 تَعَجَّبَ الْحِصَانُ مِمَّا سَمِعَهُ ، وَسَأَلَ هِنْدَ : أَلَمْ  يرْجِع إليك الحِمَارُ ؟ فَأَجَابَتْ : بَلْ وَلَمْ يَعُدْ إِلَى الْبَيْتِ ، وَأَضَاعَ  بَرْدَعَتَهُ ، وَسُرِقَ لِجَامُهُ ، وَضَلَّ طَرِيقَهُ .. وَأَعَادَهُ النَّاسُ إِلَيْنَا بَعْدَ يَوْمٍ .

 

 كَانَتِ الشَّمْسُ قَدْ غابَتْ ، وَأَتَى الظَّلاَمُ ، وَحَاوَلتْ هِنْدُ أَنْ تَقِفَ ؛ فَوَقَفَتْ بِصُعُوبَةٍ ، وَاسْتَنَدَتْ إِلَى حِصَانِهَا .. ثُمَّ حَاوَلتْ  أَنْ  تَثِبَ ؛ لِتَرْكَبَهُ ؛ فَلَمْ تَسْتَطِعْ . وَعَزَّ عَلَى الْحِصَانِ مَا رَآهُ بِهِنْدَ ؛ فَأَشْفَقَ عَلَيْهَا ، وَفَكَّرَ فى أَمْرِهَا ، وَتَذَكَّرَ الْجَمَلَ الطَّوِيلَ ، وَكَانَ يَرَاهُ ، وَهُوَ يَبْرُكُ ؛ لِيَرْكَبَهُ صَاحِبُهُ . فَبَرَكَ مِثْلَ الْجَمَلِ ؛ فَفَرِحَتْ بِهِ هِنْدُ ، وَرَكِبَتْهُ ، فَنَهَضَ بِهَا وَاقِفاً وسَار بِها إلى البَيْتِ..

تَأَخَّرتْ هِنْدُ عَنْ مَوْعِدِ عَوْدَتِهَا إِلَى بَيْتِهَا ؛ فَانْزَعَجَتْ أُسْرَتُهَا ، وَخَرَجَ أَبَوَاهَا ، وأَخَوَاهَا مِنَ الْبَيْتِ.. وَكَانُوا يَتَرَقَّبُونَ عَوْدَتَهَا ؛ فَسَارَ أَخُوهَا الصَّغِيرُ فِى طَرِيقِ الْمَزْرَعَةِ قَلِيلاً ، وَعَادَ إِلَيْهِمْ سَرِيعاً وَهُوَ يَصِيحُ : هِنْدُ قَدْ عَادَتْ إِلَيْنَا ..  فَسَارَعَ الْجَمِيعُ  إِلَيْهَا ؛ لِيَسْتَقْبِلُوهَا . فَكَانَ أَبَوَاهَا يُقُولاَنِ مَعًا : حَمْدًا لِلَّهِ عَلَى السَّلامَةِ ، وَكَانَ أَخَوَاهَا يُصَفِّقَانِ ، وَيَرْقُصَانِ حَوْلَ حِصَانِهَا احْـتِفاَلاً بِعَوْدَتِهَا سَالِمَةً ، وَكَانَتْ هِنْدُ تُشِيرُ إِلَيْهِمْ جَمِيعاً بِيَمِينِهَا : شُكْرًا لَكُمْ ، وَأَنَا آسِفَةٌ . فَلَمْ يُعَاقِبْهَا أَبَوَاهَا بِتَأْخِيرِهَا ؛ فَقَدِ اكْتَفَيِا بِاعْتِذَارِهَا .

سَمِعَتْ هِنْدُ حِصَانَهَا ، وَهُوَ يُحَمْحِمُ ، وَأَحَسَّتْ بِهِ ، وَهُوَ يَرْقُصُ ؛ فَسَأَلَتْهُ : يَاحِصَانِىَ ، كَيْفَ تُحَمْحِمُ دُونَ أَمْرٍ مِنِّى ؟! وَكَيْفَ تَرْقُصُ دُونَ إِذْنٍ مِنِّى ؟! فَأَجَابَ : لَقَدْ أَقَامَتْ لَكِ أُسْرَتُكِ حَفْلَةَ اسْتِقْبَالٍ ؛ لِعَوْدَتِكِ سَالِمَةً .. وَأَنَا فَرِحٌ مِثْلَهُمْ بِعَوْدَتِكِ . فَرَأَيْتُ أَنَّهُ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَىَّ أَنْ أَحْتَفِلَ مِثْلَهُمْ بِعَوْدَتِكِ سَالِمَةً .. فَرَبَّتَتْ هِنْدُ عُنُقَ حِصَانِهَا ، وَقَالَتْ لَهُ : شُكْرًا لَكَ يَا حِصَانِىَ الأَصِيلَ .. فَأَنْتَ  تَعْرِفُ مَا يَجِبُ عَلَيْكَ ، وَلاَ تَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُنَبِّهُكَ لِمَا يَنْبَغِى لَكَ أَنْ تَعْمَلَهُ.